الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

حركة نصف دائريه ..

مدد ..... مدد يا اهل الطريق مدد ... مدد يا طاهره يا امالعواجز مدد ....
اخرجه الصوت الاجش المرتفع من لحظات شروده القصيره وهو يقف منتظرا تحرك الكتل البشريه المتراصه فى الطريق امام مسجد السيده زينب ... لم ينتبه قط وهو يخطط لزيارته الاولى الى صديق عمره فى منزله القديم بالسيده زينب منذ ان تركها وهو ابن الثانيه عشر ان اليوم هو الليله التى تسبق ليله المولد الكبرى ... وكيف سيتذكر وهو الذى غادر الحى بل القاهره كلها  منذ اكثر من عشرين عاما
الجسد النحيل المتحرك وسط الجموع بخفه شديده دون ان يعبأ بالزحام المميت .... ساقه المفقوده والتى يستبدلها بساق خشبيه رفيعه منحت خطواته شكلها المميز فى انصاف دوائر متتاليه مثيره للضحك حينما يتحرك بسرعه ... مخيفه وموجعه حينما يتحرك ببطء شديد طالبا للمساعده ..... رغم ان مشاهد حى السيده فى ذاكرته فقدت الكثير من تفاصيلها والوانها الا ان خوفه القديم من - ابو رجل خشب -كما كانوا يطلقون عليه لم يترك ابدا موقعه فى اعماق عقله الباطن بكل تفاصيل حركته وسط جموع الناس ايام المولد الثلاثه , وصوته المرتفع الذى لم يفقد ابدا قدرته على تمييزه وسط هدير زحام مريدى السيده وزوار المقام فى المولد
اخذ يراقب حركاته المميزه التى لم تتغير ابدا من خلف زجاج سيارته الحديثه المتحركه ببطء الزحام والتى قرر بعد ان ايقن عدم جدواها التخلص منها بركنها فى اقرب شارع جانبى يستطيع الدخول اليه .... وهو ماكان قبل ان يلتقى بصديق طفولته فى سهره ذكريات حضرها بنصف ذهن يمتلئ بأنصاف صور ونصف ذهن اخر تشغله صوره واحده تتوالى وتتوالى للساق الخشبيه التى تفسح مجالا لانصاف دوائرها وسط كتل اللحوم البشريه المكدسه فى كل مكان ..... بعد منتصف الليل بقليل انهى زيارته بكثير من الوعود التى يدرك هو وصديقه فى قراره نفسيهما انها لن تأخذ نصيبها من التنفيذ , وقليل من الاحداث وملامح الوجوه التى علقت بصعوبه بالغه فى خلايا ذاكرته المستهلكه بشتى الاشياء المهمه وغير المهمه
فى طريق عودته الى سيارته لمح الرجل يتحرك فى انصاف دوائره موزعا اكواب الشاى على بعض مريدى السيده الجالسين على السور الحديدى المقابل للمقام ... ارتبطت صورته فى ذهنه بأيام المولد الثلاثه فقط .... لايراه احدا بعد انتهاء ليله المولد الكبرى ... لم يكن هناك من يدرى اين يذهب طوال العام.... بعضهم كان يقول انه يدور فى القرى والمحافظات زائرا الاولياء الصالحين وحاضرا كل الموالد واخرين منحوه صفات الصالحين الذين تهيم ارواحهم فى سرمديه الكون ولاتحط الا حينما تحب .....
لم تتملكه الرغبه فى العوده الى شقته المستأجره والبقاء وحيدا .... قرر الجلوس قليلا على المقهى المقابل للمسجد مانحا لنفسه المجال لمتابعه الرجل ذو الساق الخشبيه عن قرب ... طلب كوبا من الشاى بالنعناع الاخضر واخذ يرتشف ببطء شديد مستمتعا بدفء الاحساس بألفه الجلوس وسط البشر بدلا من البقاء وحيدا كعادته بعد وفاه والديه .... مجال الرؤيه من مكانه فى المقهى لم يكن كاملا ولكن ديناميكيه حركه الرجل ذو الساق الخشبيه فى المساحه المحيطه بالمسجد كلها جعلته يراه حاملا تاره اكواب الشاى الساخن الى بعض الجالسين على الرصيف امام المسجد .... عابرا قنطره الطريق وفى يده اليمنى صينيه كبيره مملوءه باطباق من طعام صنع بأيدى مريدات السيده فى السرادقات المختلفه المتناثره فى الازقه والعطفات التى تمتلئ بها المنطقه المحيطه بالمسجد.... هو لم يعرف عنه ابدا انتماءه لاى طريقه من الطرق الصوفيه ولكنك لو راقبته عن قرب لوجدت اهالى جميع الطرق يعرفونه جيدا دون ان يعرف عنه احدا اى شئ ولاحتى اسمه
قبل الفجر بوقت ... الارض بجوار المسجد وفى الحارات المجاورة وفى مداخل العقارات قد افترشتها الاجساد المرهقه من اعباء اليوم السابق ملقيه نفسها فى اكبر حيز قد تتمكن من الحصول عليه دون ان يعبأ احدا بالنوم علىا لارصفه فى العراء .... هو لم يكن من تلك الاجساد المتراصة ارضا .... اتخذ جانبا بجوار بائع الكسكسى الذى تحتل عربته الموقع المقابل للباب الرئيسى لمسجد السيدة منذ سنوات بعيده .... الهدوء النسبى الذى احتل اجواء المنطقة دفعه لمغادره مكانه  فى المقهى ومحاوله التقرب من صاحب الساق الخشبيه... محاولا عدم الغوص بقدمه فى اى من النائمين قطع المسافة الفاصلة بين المقهى وبين عربة الكسكسى والتى لم تستغرق اكثر من دقيقتين ... ألقى السلام طالبا طبقا من لكسكى اللذيذ متذكرا والدته التى كثيرا ما نهرته من اكله ليلا حتى لا يزداد فى الوزن .... ومع اول ملعقه يتناولها اخذ يتجاذب اطراف الحديث كعادة المصريين فى كسرالملل ... مع الطبق الثانى كانا قد تحررا من خجل اللقاء الاول بين اثنين لا يعرفون بعضهم البعض وخاصه حينما اخبره انه يعرفه منذ ايام صباه فى نفس المنطقه وفى نفس التوقيت ... ومع الطبق الثالث وكوب الشاى الساخن دار الحوار حول عشقه زياره ام العواجز وكيف انه وعلى مدار50 عاما لم يفوت مولدها دون حضور ...صوت المؤذن رافعا اذان الفجر قطع خيط الحميميه الوليدة بين الكهل والشيخ العجوز ....
استند العجوز ذو الساق الخشبيه على ذراعه ودخلا سويا الىساحه المسجد للصلاة , بعد الفجر كان لابد عليه من العودة الى غرفتة للنوم هو فى الاصل كان قد تغلب بصعوبه على عادات صباه بالسهر حتى الساعات الاولى من صباح اليوم الوليد ... قبل رحيله سأل عجوز حلم صباه المخيف عن وجهه عن وجهته ... دهشته من عدم نومه فى احدى الاركان بجوار اى من الاجساد المتراصة هنا دفعته الى ان يعرض عليه توصيلة
فى الطريق حميمية العلاقة الوليدة دفعته الى ان يسأل دون حرج عن سر الساق الخشبية وكيفية ضياع ساقه الحقيقية ...
= هزار صعايدة تقيل شويه
رغم عدم فهمه الاجابه الا ان الالم الظاهر على ملامح وجهه وهو ينطق بكلماته البسيطه دفعه للصمت وعدم الاسترسال فى اسئلته
قبل نهاية الطريق بقليل قطع العجوز حبل الصمت الذى يمتدمن خواء طريقهما فى ساعات الصباح الباكرة وأخبره عن وجود حضرة ذكر فى مساء اليوم لا يعلم عنها الكثيرين هى فقط للخاصه من ارباب الطرق المختلفة .... بعد العشاء كانت اخر كلماته وهو يغلق باب السيارة ببعض العنف .... وعن انتظاره له فى المساء وصلته بعض الكلمات ببعض الصعوبه وهو ينطلق بسيارته بعيدا نحو الفراغ
فى المساء ورغم انه لم ينم منذ اليوم السابق حيث جفاه النوم وتناوبت عليه الافكار طوال النهار .... ارتدى ملابس رياضيه وقرر الذهاب بالمواصلات العادية تجنبا لمشاكل الزحام خاصه وانها كانت ليله المولد الكبرى
امام باب المسجد الكبير وبعد صلاة العشاء مباشرة وجده ينتظر مستندا على السور مريحا ساقه السليمه وهو يصنع من ساقه الخشبيه محورا يرتكز عليه ثقل جسده العجوز دون ان يقع .... بأبتسامه مرحه وبجملة ثقه فى حضوره هذاالمساء استقبله وهو يتحرك نحو صحن المسجد فى خطواته السريعه بحركته نصف الدائريه المميزه .... فى الركن البعيد فى داخل المسجد وجد صفين متقابلين من البشر يرتدون الجلابيب البيضاء الناصعه وكأنهم كانوا فى انتظاره لبدء الحضرة حيث لم تمر على وصوله دقيقتان وبدأ المنشد فى انشاده وبدأ الجميع فى التجاوب معه بالصوت وبالحركه فى الثبات بشكل نصف دائرى .... وقف فى الصف المقابل له وفى مواجهته تماما ... وأخذ سريعا يتحرك مثل الجميع ... لم يكن يهتم كثيرا بالتجاوب مع المنشد ولا بتقليدحركات العجوز او الموجودين هو فقط كان يريد مشاهده كل شئ ومعرفه اين سيذهب العجوزب عد انتهاء الحضرة وانتهاء المولد بأذان الفجر ..........؟!!!
لم يمض على وجودهم الساعة الا وامتلأ الجو بروح غريبه بدأ ايقاع الانشاد فى الارتفاع ...  الحركةالنصف دائريه للجميع اخذت فى التكرار وبعنف .... وجه عجوزه ذو الساق الخشبيه بدأ يتلون ببياض الثلج الناصع .... ذراعاه يسبحان فى المحيط الفارغ حول رأسه
بينما  ساقهالخشبية مركز ثقل يرتكز جسده المتحرك فى انصاف دوائر متتالية عليها دون استناد علىا ى شئ .... عينيه لا تظهر منهما الا لون ابيض دفع رعشه هلع لان تسرى ببطء فى جسده كلة ... توقف عن الحركه وهو ينظر حوله .... اجساد منهكة ملقاة على ارض المسجد ....اجساد تقف بصعوبه متحركه فى حركة مترنحه بطيئه ..... صوت المنشد يكاد يسمع من شدةالارهاق ... وحدة يتحرك فى وسط الحلقة فى حركته المميزة يمينا ويسارا دون كلل ... نادى عليه وهو يحاول ان يوقف حركاته المتتاليه دون جدوى .... جسده المرهق دفعه للجلوس ارضا فى مواجهته متأملا اياه فى حركاته.... عقله المنهك ورتابه حركات العجوز الذى جلس يتابعها بشغف دفعته لأن يغفو قليلا
...
ساحه واسعه لايحدها شئ .... يدور حول نفسه فى انصافدوائر غير مكتمله .... يمنعه شئ عن اكمال دوراته رغم محاولاته المستميته من بعيديسمع صوت ارتطام خطوات خشبيه على الارض الفضاء ... يبحث عن مصدر الصوت مناديابصوته المحبوس بين جنبيه ... صور غير مكتمله تظهر وتختفى تباعا فى خلفيه الساحه ....صوت الخطوات يعلو ويعلو يسمعه يتردد بلا انقطاع داخل تجويفه الخاوى

صوت اذان الفجر ايقظه من غفوته .... ثوان مرت قبل ان يعمل عقله ويتمكن من ادراك تفاصيل المكان الذى استيقظ فيه .... لم يكن عجوزه ذوالساق الخشبيه هنا ... اخذ يدور بعينيه فى المساحه التى احتلتها حضرتهم امس ... لم يجد له اثر , لم يجد ايا من الاجساد التى يتذكر انها كانت ملقاه بعشوائيه على ارض المسجد بجواره قبل قليل .... لم يتمكن عقله من استيعاب كل تلك الحقائق المتتاليةبشكل سريع اخذ يدور فى انحاء المسجد المختلفه بحثا عن اى وجه يتذكر ملامحه من ليلهامس دون جدوى .... اسئلته المتتاليه عن مكان العجوز ذو الساق الخشبيه لم تجلب لهاى جواب ... لم ينكر احدا معرفته بشخصيته ... فقط الجميع لا يعلم اين يذهب بعد ان يسمع فجر اليوم الجديد معلنا انتهاء ليله المولد الكبرى ..... الروايات المختلفه التى سمعها كثيرا تردد من جديد حوله .... نظرات التساؤل التى ارتسمت فى اعين الناس التى يسألها اخافته ... دفعته دفعا خارج المسجد حتى قبل ان يصلى الفجر ... خرج مسرعا وهو يدور بعينيه فى المكان بحثا عنه هنا او هناك ... يبحث فى الوجوه الناعسه عن طيف عجوز ماضيه الذى اختفى فجأه قبل ان يتمكن من ان يسأله عن سر الحلم الذى رأه فى غفوته
اختفى حتى قبل ان يسأله عن سر حركات ساقه الخشبيه النصف دائريه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق