دقات بندول الساعه الخشبيه الكبيره التي تحتل وسط الصاله تصله في الدور العلوي حيث يجلس وحيدا تخبره انه تأخر كثيرا عن موعد نومه المعتاد ..... ...... يواجه دماه الخشبيه الصغيره منذ ساعات يبحث في وجوهها التي امضي الليالي الطويله في صناعتها عن حل يخرجه مما هو فيه ..... الملل الذي رأه مرتسما علي وجوه الحضور وفي تصرفاتهم صغيرا قبل الكبير يقلقه ..... يثبت ان شكوكه التي راودته سابقا حين قل عدد الجمهور تدريجيا كانت في محلها ..... ذهنه خالي من اي افكار جديده او حلول
***********
لمسات حانيه لأنامل رقيقه علي كتفه الأيمن جعلته يدرك انه امضي ليلته الماضيه جالسا علي كرسي وساندا رأسه علي المنضده التي تتوسط الغرفه التي يستخدمها كمصنع ومخزن لدماه الخشبيه ..... ابتسم لصاحبه الانامل الرقيقه وهو يتمتم ببعض الجمل ليفسر نومه الغريب هنا ..... كانت تلك هي حفيدته ..... يتيمه الابوين وتعيش معه هنا منذ ان كانت فى الخامسه ..... الأن هي تسبق عامها الثانى عشر بأيام قليله ..... طفله على مشارف الانوثه شعرها القصير الذهبي ينسدل برقه ونعومه علي رقبتها البيضاء وكتفيها تهرب منه بعض الخصلات لتستقر بجوار عينيها العسليتان ... ملامح وجهها الدافئه تجبرك علي الشعور نحوها بالألفه منذ النظره الأولي ..........
ربتت على كتفه بأناملها الرقيقه .... الابتسامه التى لا تفارق عينيها انتقلت الى وجهها وهى تخبره انها حضرت له طعام الافطار بيديها هذا الصباح ..... وانتقلت لترتسم باستحياء على وجهه حينما جذبته من يديه نحو غرفه الطعام فى الدور السفلى قبل حتى ان يبدأ فى سلسله الاعتذارات التى كان على وشك قولها
رغم انه اعترف لها بعد اول لقيمات تناولها ان الطعام بالفعل جيد وانه كان يحتاج الى تلك الوجبه ليبدأ يوما طويلا ..... الا ان شروده دفعها الى ان تدفعه الى الذهاب الى حجرته ومحاوله الحصول على بعض الراحه التى يحتاجها جسده وذهنه المرهقين ...... وبعض ان اطمأنت انه بدأ حديثه مع الملائكه ذهبت الى حجرتها لتشبع رغبه تتملكها منذ الامس بالرسم دون ان يكون لديها شيئا محددا لترسمه ........
******************
احضرت فرشاتها والالوان ولوحه بيضاء متوسطه الحجم ...... وبنصف ذهنها تركت يداها ترسم ما تشاء .... وبنصف الذهن الباقى اخذت تطارد تلك الافكار التى تحتلها منذ الليله السابقه مابين جدها وعرضه الراقص الذى يوشك على الانهيار ....... وذاك الحلم الراقص الذى يراودها يوميا منذ اكثر من اسبوع ......
مر الوقت دون ان تتمكن من التقاط اى من تلك الافكار ...... يداها لم تتوقف عن العمل طوال تلك المده ... الصوره اكتملت ..... اخذت تتأملها بدهشه ..... لقد رسمت ذاك الفارس الذى يراقصها كل ليله ..... بوجهه الابيض المشرأب بالحمره التى تتجلى ظاهره فى وجنتيه ..... وملامحه الدقيقه المتناسقه .....
لا تدرى اذا كانت قد غفلت وهى جالسه ممسكه بفرشاتها ام انها شردت بعيدا ..... ولكنها لم تتمالك نفسها حين فاقت مما كانت فيه .... انطلقت تجرى نحوغرفه جدها النائم وهى تنادى عليه بصوت مرتفع ..... الجد على سريره بين اليقظه والوسن ..... احضرت له كوبا من القهوه المغليه الساخنه ..... الجد يرتشف القهوه ببطء بينما هى تتحرك فى الحجره يمينا ويسارا تتحدث بسرعه ... تتراقص ببهجه ..... مع اخر رشفات جدها للقهوه اعتدل فى جلسته و طلب منها ان تعيد حديثها السابق مره اخرى ولكن ببطء ........ ارتسمت على وجهها ابتسامه جزله رقيقه قبل ان تجلس على طرف السرير ممسكه بلوحتها وتبدأ فى الحديث من جديد بهدوء ........
***********
لم يشعر ايا منهما بالوقت يمر ..... أنهمكا فى صنع الدميه الجديده التى رسمتها الصغيره ..... مع دقات بندول الساعه الخشبيه الكبيره فى الصاله معلنه انتهاء اليوم الثالث كان الجد قد انتهى من وضع لمساته الاخيره على الدميه الجديده .... برفق شديد ايقظ الصغيره التى انهارت على الكرسى منذ ساعات نائمه من شده الارهاق ..... اللمعه النادره التى رأتها فى عينى جدها رسمت ابتسامه صغيره على شفتيها ..... اخذت تتأمل الدميه المصنوعه تماما كما رأتها فى حلم يقظتها ...... امسكتها من ذراعيها واخذت تدور وتدور بها فى الحجره فرحا .... نظرت لجدها نظره رضا وابتسمت ..... وقبل ان تستجيب لطلب جدها بالحصول على قسط كبير من الراحه القت نظره على الدميه ..... توقفت قليلا وزمت شفتيها وهى تفكر قليلا ..... طبعت قبله على وجنتى الدميه مانحا اياها بعضا من الحمره .... نظرت اليها برضا .... وتركتها بعنايه ليست بعيده عن بقيه الدمى .... وتأملتها مره اخيره قبل ان تحكم اغلاق باب الغرفه المظلمه ........
**********************
صوت حركات خافته يقطع صمت ظلام الغرفه ..... لحظات صمت جديده .... اضاءه تكفى لكشف محتويات الغرفه تنبثق من مكان غير ظاهر ..... منضده خشبيه فى المنتصف يرقد فوقها بقايا خشب واقمشه ملونه بجانبها شاكوش كبير وبعض المسامير المتناثره بدون ترتيب فوق اوراق رسم ..... فى ركن الغرفه تتراص دمى خشبيه ... وجهها شاحب ... ملابسها كالحه الالوان فقدت مع العمر بريقها ..... تقف بتحد فى مقابل دميه وحيده ... ملابسها الزاهيه الالوان تلمع فى الضوء الخافت , وجنتها البيضاء مازالت تصطبغ بحمره شفاه الفتاه الصغيره التى طبعت عليها منذ ساعات قليله قبله الميلاد الاولى .....
************************
مع اولى ساعات الصباح كان صوت خطوات اقدامها على السلم الخشبى العتيق يقطع سكون الصمت .... رغبتها فى رؤيه الدميه الجديده جعلتها تهمل ملاحظه اختلاف ترتيب الدمى القدميه .... امسكت بيديها وليدها الجديد – دميتها – و|أخذت تدور بها فى المكان محاوله تقليد حلم ساعات نوم ليله امس .... خطواتها المتعثره فى الخيوط اوقعتها على الارضيه الخشبيه فأصدرت صوتا ايقظ جدها الذى ينام فى غرفته تحت الورشه مباشره ..... بعد الافطار جلسا سويا يكملان تنفيذ باقى اجزاء الحلم .... الفكره كلها فى تصميم استعراض راقص تشارك فيه الصغيره تلك الدميه الجديده الرقص ..... فقط ثلاث اسابيع على الخميس الاخير من الشهر موعد العرض
استقر تفكير الجد على ان يبدأ بتعليم الصغيره الخطوات اولا وحدها وحين تتقنها يبدأ مرحله الرقص المزدوج بينها وبين الدميه التى سيقوم هو بتحريكها .... خطوه لليمين ... خطوتان لليسار .... نصف دوره خطوات متناغمه مع ايقاع الموسيقى الصادر من جهاز البيانو الخشبى الكبير ....خطوه لليمين ... خطوتان لليسار .... نصف دوره .... الليال مرت حتى نهايه اليوم العشرون والعمل مايزال دائرا فى الغرفه العلويه دون كلل او ملل ....
قبل الفجر بقليل توقف الصوت الصادر من البيانو وانقطعت صوت الاقدام على الارضيه الخشبيه وأطبق على المكان بعض الصمت مختلطا بصوت انفاس الجد الملقى متعبا على كرسيه بجوار البيانو , وصوت انفاس الفتاه المنزويه فى ركن الغرفه محتضنه دميتها الصغيره ..... بعض الحفيف الصادر من حركه اقدام الدمى القديمه متحركه فى الركن الخلفى المهمل للغرفه .... همسات غير مفسره تحمل الكثير من معانى الغضب
************************
مع اول اشعه الشمس المشرقه فى يوم العرض بدأت الحياه تدب فى الغرفه سريعا .... الجد منهمك فى وضع اللمسات الاخيره على عرضه المرتقب, يراقب بعنايه عمليه نقل البيانو القديم الى العربه الكبيره التى اتفق معها لنقلهم الى البلده ... الصغيره اخذت تلبس دميتها الثوب الذى امضت فى صنعه الليلتين الماضيتين ... وحينما انتهت اخذتها معها الى غرفتها وبدأت ترتدى ثوبها الذى انفق جدها اكثر من نصف مدخرات العرض السابق عليه .... قبل العصر كان كل شئ قد انتهى كما خطط له الجد ... لم يكن هناك اكثر من نقل الدمى القديمه فى مؤخره العربه لاستخدامهم كديكورات فى العرض .... ترك الجد تلك العمليه للعمال واتجه مع صغيرته ودميتها نحو البلده لوضع اخر لمسات اللحن مع رفيقه عازف الموسيقى
فى المساء كان كل شئ فى موضعه تماما .... الدمى مثبته فى السقف وموضوعه دون حركه فى اماكنها كما رسمتها لها الصغيره ..... الجد فى الطابق العلوى مع خيوط الدميه الجديده ... خلف الستار تقف الفتاه بجوار دميتها .... ثلاث دقائق قبل رفع الستار .... دقيقتين ... دقيقه واحده .... قبله حانيه من شفتيها تعيد الدماء الى وجنه الدميه من جديد مع همسات بالحظ الجيد ... وانسابت الموسيقى ..... تتابع حركاتهما سويا .. والجد يحرك الخيوط التى تربط الدميه مع خطوات قدميها بأنسيابيه شديده ..... لوهله صغيره فقدت التمييز وظنت لوهله انها تراقص شابا من لحم ودم ..... لم يكن هذا احساسها وحدها ..... انتقل الاحساس الى جميع من فى القاعه حضور ..... ذاك الاحساس الذى سيجعلك تنسى وانت تشاهد انها مجرد دميه تراقصها فتاه صغيره .... ستظن انك ترى استعراضا راقصا حيا لصغيرين ... لا بل ستتخطى ذلك وتسمع فى اذنيك صوت انفاسها المتعبه ... وترى بعينيك لمعه قطرات العرق المنسابه على جبينها الابيض ..... وتنتقل اليك حراره دمائها الساخنه التى تتدفق الى وجنتيها المحمره من انفعال الحركات .....ساعه مرت على الجميع كأنها ثوان قليله .... مع توقف نغمات الموسيقى توقفت الحركات الراقصه , وتوقفت انفاس الجميع .... واخذت الجميع لحظات نشوه صامته قطعها صوت تصفيق حاد استمر لبعض الوقت .....
نشوه النجاح اخذت الجد والصغيره ولم يلحظ ايا منهما اللون الاحمر الذى احتل مكان بياض لون عيون الدمى القديمه
************************
فى المنزل كان على الجد النوم جيدا لتعويض ارهاق ليال العمل المتواليه فى عرضه الذى جعله مطلوبا اكثر من الاول ..... تمنى لصغيرته ليله نوم هانئه واتجه الى غرفته
فى الحجره العلويه امضت الصغيره بعض الوقت مع دميتها الجديده .... كانت ترغب فى ان تصحبها معها الى غرفه نومها ولكن جدها رفض اقتراحها ..... اخذت تتأملها وهى تفكر فى الاحساس الذى انتابها وقت الرقص .... طوال العشرون يوما فى التدريب لم تشعر بمثله .... ظلت تتأملها حتى احتل التعب جميع خلاياها وارتسم الوسن على جفونها فهبطت الى غرفتها ...
الصمت المطبق يحتل جميع غرف المنزل الا الغرفه العلويه ..... حركات الدمى القديمه تتوالى نحو الركن الذى ترقد فيه الدميه الجديده ... اصوات غير مفهومه تلاها صمت تام
الصغيره فى غرفتها تهب مفزوعه من نومها .... خطوات سريعه على السلم الخشبى القديم .... ارتطام بالباب نصف المغلق .... لحظه صمت ... صوت صرخات متتاليه ونشيج باكى ايقظ الجد من نومها ودفعه للصعود الى الاعلى .... المشهد كالتالى ... الدميه الجديده ترقد ممزقه الاوصال ولا شئ اخر مختلف عما تركته الصغيره منذ قليل الجد لا يجد ما يفعله ليخرج من الذهول الذى انتابه .... ودموع الصغيره المنهمره لا تتوقف
ساعه مرت عليهما .... تهاوى الجد على الكرسى الكبير فى طرف الغرفه ... الصغيره اخذت بقايا دميتها وهبطت درجات السلم الخشبى بصعوبه نحو غرفتها اخذته بين ذراعيها ورقدت على السرير الصغير
دموعها منسابه على اجزاء الدميه بين ذراعيها رغم عينيها المغلقه فى مايشبه النعاس ... لقد ادركت الان ان ماشعرت به وهى تراقصه فى الليله السابقه كان مشاعر حب صافيه دون اى تبرير
انتظاره لمعرفتها حقيقه بشريته الوليده على قطرات دموعها لن تجعل قلبها الرقيق يدرك انه منذ ان منحته شفتاها سر الميلاد يحبها
قبل شروق الشمس بقليل .. طبع على وجنتيها قبله حانيه .... لم ينس ان دموع حزنها الصافيه هى التى وهبته الحياه ..... مسح دموعه المتساقطه والقى عليها نظرته الاخيره قبل الرحيل ..........
تمت